يتردد، منذ مدة بعيدة، منذ بداية الألفية الثالثة تحديدا، من بين ظهراني بعض الساسة والمثقفين المغاربة، خطاب (يشارف على الخطابة في العديد من ملامحه) مفاده أن المغرب "الجديد" بصدد انتقال ديمقراطي (أو انتقال إلى الديمقراطية)، من غير الوارد إطلاقا، يقول هؤلاء، التراجع عنه، أو الارتداد عن مسلسله، أو السماح للانتكاسة أن تأتيه من أمامه أو من خلفه.
تتمثل الدفوعات الأولى لأصحاب هذا الخطاب في القول بأن انتقال الحكم إلى ملك شاب، حداثي النظرة، متفتح الأفق، يقدم العمل عن قرب على التوجيهات من بين جدران مكتبه، واع بموقع المغرب وتحدياته، وفوق كل هذا وذاك، سليم الذمة من صراعات الماضي وتجاوزاته... كلها -يقول هؤلاء- تشفع له لينتقل بالبلاد إلى "حالة من الديمقراطية"، تسطر بموجبها بدقة الحقوق والواجبات، وتقتسم السلطات في ظلها بإنصاف، وعلى نحو يضمن تداولية الحكم في جو من التراضي المكتوب، وعلى أساس من قواعد في اللعبة واضحة لا تقبل التأويل.
وتتمثل دفوعاتهم أيضا في القول بأنه ما دامت مقومات الدولة الأساس قد أقيمت أو شارفت على ذلك، وتمتنت هياكلها نسبيا على امتداد الخمسين سنة الماضية، فقد بات من الملح، يتابع هؤلاء، تجاوز سكونيتها القائمة بجهة تحديد وظيفتها ومسؤوليتها، وضبط سلوكها بالنص والقانون، ليغدو هذا الأخير مجال ولائها الأول، عوض تركها مشتتة الولاء والانتماء، لا تأبه بالمراقبة أو بالمحاسبة، فما بالك بتظلمات المواطنين أمام القضاء.
ويدفعون، فضلا عن ذلك، بمسوغ مؤداه أن لا سبيل لتدارك إخفاقات الخمسين سنة الماضية، والعجز البنيوي الذي ترتب عنها، إلا سبيل الاحتكام إلى الطريق الديمقراطي، الأسلم سياسيا واجتماعيا، الأنجع اقتصاديا، والأضمن لمستقبل الأفراد والجماعات إن هم رضوا وارتضوا صيغة العيش المشترك.
يستشهد أصحاب هذا الرأي بمجموعة "إشارات" بدت لهم في حينه، فعلية، عميقة الدلالة، ومعبرة عن عزيمة الانتقال هاته، وعلى ثبات الخطى المحيلة إليه:
الإشارة الأولى وتتمثل في "النية الواضحة" المعبر عنها من لدن رأس هرم السلطة، لطي ملف الماضي نهائيا، عبر خلق هيئات أوكل إليها أمر معالجة "التجاوزات الكبرى"، عبر جبر الضرر ماديا، أو من خلال رد الاعتبار المعنوي لضحايا سنوات الجمر، تعرضوا على إثرها لدفن جماعي شنيع، ولم يحدد لمدفنهم الجماعي هذا مكان جغرافي يذكر. وقد طويت الصفحة حقا وحقيقة، إلا من بعض الحالات النادرة والمعقدة (حالة المهدي بن بركة تحديدا).أما الإشارة الثانية فتمثلت، في نظرهم، في التزام الملك شخصيا -في خطبه، كما في بعض مقابلاته مع الصحافة الأجنبية- بأن الخيار الديمقراطي القائم على بناء المؤسسات وإقامة دولة الحق والقانون، خيار لا رجعة عنه تحت أي ظرف من الظروف، ومهما تكن الإكراهات والتحديات.
ويستشهدون، لتزكية طرحهم، بمدى تزايد سعة الحريات، وتوسع مجال المشاركة، وتثمين أدوار الفاعلين المدنيين وأيضا دور المرأة. وهو ما تم تحقيق الجزء الكبير منه، يقول هؤلاء، على الأقل بالقياس إلى ما وضع من تشريعات ولوائح وما سن من ضمانات هنا وهناك.
لمناهضي هذا الطرح -أعني للمشككين في جوهره ومداه- دفوعاتهم أيضا ومسوغاتهم الكبرى، للتدليل على أن الذي يجري لا يخرج كثيرا عن مجال الخطابة السياسية، التي غالبا ما تحتكم إلى المظهر، ولا تسائل المسألة من زاوية المضمون والجوهر.
يقول هؤلاء: إنه لو سلمنا جدلا بأن وصول ملك جديد إلى سدة الحكم واكبته حقا حركية إصلاحية حقيقية، بجهة القطع نهائيا مع إرث الماضي الأسود، وفسح المجال "لمصالحة المغاربة مع تاريخهم القريب"، فإن ذلك لا يخرج عن سياق البحث عن الشرعنة وإعادة بناء المشروعية دونما مس، يقول هؤلاء، بطبيعة المنظومة ولا بآليات اشتغالها البنيوية.
ويستدلون على ذلك بالقول بأن عملية إنصاف ضحايا الماضي مثلا -وهي العمل الأبرز للملك الجديد دون جدال- اقتصرت على التجاوزات الكبرى دون غيرها، ولم تذهب لمستوى مساءلة الثاوين خلفها -وبعضهم لا يزال حيا يرزق- أو لدرجة جنوح الدولة للاعتذار في أفق "مداواة الخواطر نهائيا"، كما حصل بجنوب أفريقيا وبغيرها، وإن باختلاف الدرجة والسياق.
ساعة إصلاح ثم تغيير طبيعة المنظومة آتية لا ريب فيها، وستأتي تلقائيا على محك التدافع بين الفرقاء، والمطلوب هو العمل على تغيير موازين القوى على الأرض |
0 commentaires: